الرئيسية » الأرشيف » ­­­­­­­ زيارة إلى «باب الملاح»

­­­­­­­ زيارة إلى «باب الملاح»

الكاتب: 
يوسف إسماعيل

في المغرب الأقصى حين تذكر حي باب الملاح ـ الموجود في أغلب المدن المغربية التاريخية، مراكش، الرباط، الدار البيضاء، سلا، تطوان، فاس، مكناس، الصويرة .. ـ تتداخل الذاكرة التاريخية مع الحاضر، مع النسيج الاجتماعي المغربي، مع المدينة القديمة وفنها المعماري وتجارها ودراويشها وفقرائها وميادينها وأسوارها وحلقاتها وصناعاتها،
فقد ارتبط حي باب الملاح في ذاكرة المغرب بالجالية اليهودية المغربية، منذ إنشاء أول ملاح في مدينة فاس، واستمرت خصوصيته حتى نهاية تجمع اليهود فيه، وهجرتهم مع منتصف القرن العشرين. غير أن لأرشيف حي باب الملاح، صورا مهمة على جميع المستويات الوجودية لأي مجتمع متعايش بشكل حضاري عبر تاريخه. فالذاكرة الثقافية تتحدث عن تفاعل بنيوي في الهوية الثقافية لحي الملاح، حيث كانت تتجسد ثقافة التسامح، وحرية الاعتقاد والعبادة والطقوس الاجتماعية والدينية، وحق التجمع والبيع والشراء والتمدرس، وفق الخصوصية الدينية أو العرقية أو الطائفية، وذلك بخلاف ما روّج له الكاتب الفرنسي هنري دو لامارتينيز، في بداية التغلغل الاستعماري الفرنسي في المغرب بقوله: إن اليهود المغاربة كانوا مجبرين على العيش داخل أحياء ضيقة ووسخة، محاطة بالأسوار، وشبيهة بالسجون، يطلق عليها اسم الملاح؛ لكون سكانها كانوا يمارسون فيها مهنة معالجة الرؤوس التي يأمر سلطان المسلمين بقطعها وتحنيطها بالملح، قبل تعليقها على أبواب المدينة، وأنه لم يكن مسموحا لليهود امتلاك الأراضي أو الممتلكات إلا حديثا، وأنه خلال قرون مضت، كان على اليهود المشي حفاة إذا أرادوا المشي خارج الملاح. ولكن المؤرخ المغربي يقول: إن بناء أول ملاح في فاس في العهد المريني كان في منطقة قريبة من مكان تجميع الملح، تمهيدا لشحنه عبر القوافل التجارية، فسمي الحي بحي الملاح، ثم تم تعميم التسمية على كل حي يهودي في المغرب.
وتصويبا للحقائق، فإن عامل الهجرة الرئيس، الذي حصل في منتصف القرن العشرين لليهود المغاربة، كان بسبب التضييق الشديد الذي مارسه الاستعمار الفرنسي عليهم؛ فمع الدخول الفرنسي إلى المغرب بدأ العصر الذهبي لليهود المغاربة في الأفول، حيث عوّض المعمّرون الفرنسيون النخبة اليهودية في مراكز القرار التجاري والاقتصادي. وتم استبعاد اليهود المغاربة تدريجيا والتضييق عليهم، ليصل الميز ضدهم أقصى درجاته خلال حكومة فيشي الفرنسية، التي أصدرت قرارات تحدّ من ولوج اليهود للمهن الحرة والإدارة، مما تطلّب تدخل ملك المغرب آنذاك، محمد الخامس، ليطالب فرنسا، علنا، بالتراجع عن تلك القوانين.
والذاكرة الاقتصادية للحي، تشير إلى نشاط تجاري وصناعي مؤثر، في اقتصاد المغرب، على مدى قرون طويلة، حيث كان حي باب الملاح مركزا اقتصاديا مهما للمدن المغربية، ففيه التجارة النشيطة، وصياغة الذهب والمعادن، والحرف اليدوية كالخياطة والنجارة وصناعة الخمور الفاخرة، وعقد الصفقات التجارية وفتح الأسواق.
وكان التفرد المعماري للحي يشكل كتلة متماسكة، من حيث دوائر المركز وفروعها؛ تحيط به الأسوار، ويغلق على ساكنيه من بابين، في أول الحي ونهايته. توجد في داخله أزقة ضيقة تطل عليها نوافذ البيوت السكنية، ثم تنفرج الأزقة على ساحات واسعة، بعضها فسحات كبيرة للمساكن والأنشطة الاجتماعية والأعياد، وبعضها للدكاكين والتجارة والتسوق، وعلى زواياها بنيت المعابد الدينية. فكانت كتلته المعمارية تعكس خصوصيته، وحرية العيش لسكانه على مستوى الاعتقاد والطقوس الاجتماعية للمجموعة المشتركة، بل حق تسيير الحياة الإدارية والقضائية، بما يسمح بنمو الهوية الثقافية لساكنيه.
ومن صور الاحتفاء به، أو التعايش السلمي معه، أو حق الآخر في الاختلاف، الحي كان يقع قرب قصور السلاطين على مر تاريخ المغرب، وذلك للأهمية الاقتصادية للحي في تنشيط المجال الحضري، مما يتطلب توفير الأمن والحماية لهذا العنصر، نظرا لدوره الفاعل في تنشيط الحياة العامة، ولكونه مصدرا من مصادر تزويد خزينة الدولة بالمال. ويضاف إلى ذلك أن المرينيين، الذين بنوا أوّل ملاح في فاس في القرن الثالث عشر الميلادي، قسموا فاس إلى ثلاثة أحياء حول القصر الملكي؛ حي مسلم يضمّ قصور أمراء بني مرين، وحي خاص للعائلات المهاجرة من الأندلس، وحي للنخبة اليهودية.
وحين دخله، في مرّاكش، الكاتب البريطاني إلياس كانيتي سنة 1953 ـ الحائز جائزة نوبل للآداب والمنحدر من أصل يهودي بلغاري ـ كتب عنه في كتابه «أصوات مرّاكش» (ترجمه إلى العربية في بداية الثمانينات حسونة المصباحي وصدر عن دار توبقال وترجمه حديثا كامل يوسف حسين وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2012) بحسه الإنساني الليبرالي ـ ولم يكن ذلك بغريب عليه، فهو كاتب رواية «أوتو دافي» التي صدرت عام 1935 وفجرت هجوما عنيفا على الفاشية، فصدر قرار فوري بحظر تداولها في ألمانيا ـ واصفا مداخله وبيوته ونوافذها المطلة على الأزقة الضيقة والمفتوحة على الساحات الداخلية، ولكن الأهم من ذلك كانت قدرة كانيتي على نقل اليومي والمشترك والفردي لعلاقة اليهود، سكان الحي، بالمكان، إذ حدق في الوجوه والدكاكين وسقوفها والباعة والتجار والمتأنقين والتائهين والمتسولين والقابعين حول المراقد المحتفى بها المحاطة بالشموع وقطع النقود والعابرين إلى المقبرة اليهودية في نهاية الحي، والمنتشرين على الأرصفة المفروشة بخضار للبيع وبضاعة للتسوق، وبين هذا وذاك جري الأطفال ووقاحتهم وبراءتهم وإبداعاتهم في قراءة الحروف العبرية وأناشيدهم .
يقول (لاحظت أنني كلما أوغلت المسير في باب الملاح غدا كل شيء أكثر تواضعا، لقد تركت ورائي الأقمشة الصوفية والحرائر البديعة، لم يعد الثراء والوقار يجعلان أحدا يبدو كأبي الأنبياء، كان السوق الشرقي الواقع إلى جوار بوابة الدخول بمثابة مدخل أنيق للحي، أما حياته الفعلية، حياة البسطاء، فقد كانت ماثلة هنا، بلغت ميدانا، بدا لي بمثابة قلب باب الملاح، تحلق جمع من النسوة والرجال معا، نافورة مستطيلة الشكل، عكف النسوة على ملء الجرار التي يحملنها، أما الرجال فراحوا يملأون قربهم.. في وسط الميدان أقعى عدد من الطهاة، يطهون في الهواء الطلق، التفت حولهم أسرهم، زوجاتهم وأطفالهم، كأنما نقلوا دورهم إلى الميدان وانغمسوا في حياتهم وطهي وجبات طعامهم هاهنا في قلب الميدان) (ص83).
إن تلك الصورة لحي باب الملاح هي ذاتها الصورة النمطية للمدينة العربية القديمة بملامحها المعمارية وخيوطها الإنسانية، بغض النظر عن الهوية الدينية للساكن فيها. وقد أدرك كانيتي ذلك ولم يستطع أن يعبر عن إحساسه الإنساني بغير لغته الروائية، وإن عُد ما كتبه في أدب الرحلات؛ ولكن هل زار قبل موته في سنة 1994، فلسطين العتيقة؟
وهل سأل اليهودي المغربي الذي كان يقيم في باب الملاح، ثم هاجر إلى فلسطين، هل تحنّ إلى باب الملاح؟ وهل تعيش مع الفلسطيني ابن أرضه، مع فارق في التموضع في الأرض وهوية الارتباط والانتماء، حياة مشتركة قائمة على التعايش، وحق الحياة والانتماء للمكان بأزقة المدن الفلسطينية القديمة، القدس ويافا وحيفا والناصرة… وقناطرها وأزقتها الضيقة، ونوافذ بيوتها المطلة على العابرين، المنفرجة على ساحات للغناء والرقص والأعياد والتجمع؟ هل قمت بزيارة إلى باب الملاح الفلسطيني اليوم؟