الرئيسية » الأرشيف » مراكش مدينة القلب وعطور البهجة

مراكش مدينة القلب وعطور البهجة

الكاتب: 
فاطمة سلام

تتساقط الشمس على القلوب في مراكش  أزهار النارنج بدأت في تحويل المدينة إلى قارورة عطر كبيرة. عطر تشتهيه الحياة وتخفق له. وعمّا قريب سيحمل المراكشيون إلى “نزهاتهم” طقسهم الاحتفالي بالطبيعة في الربيع.
تتمشّى وتتلذّذ كمن يتمطّى بعد نعاس صباحي، بالانغماس في الوجوه، أطفال المدارس، عمال الطرق والمقاهي، العابرون على عجل وعلى مهل. وتبتسم جذلا عندما ترى الجميلات على الدراجات النارية، وحدهنّ المراكشيات لهنّ هذه المقدرة، بكلّ هذا الجمال والطرافة أيضاً. وعندما يعتلّ محرّك الدراجة ويبدأنَ في محاولة تدويره يتفلّت منهنّ الانزعاج والجمال معاً.

ترتبط المدينة في ذهني حرفياً باسمها الرديف “البهجة”. وسواء منحت أهلها هذا الاسم أو أشاعوا هم فيها روحه، فللاثنين حظّ وافر منه. للمدينة ساحة الفرجة والحُلقة (بتسكين اللام) الأشهر “ساحة جامع الفنا”. وأهلها ذوو نكتة، تروى وتتناقل عنهم حكايات السمر والفطنة والحذاقة.

للوافدين على المدينة أيضا نصيب من “البهجة”. فالقرويون أمثالي، الذين تتمدّد دواويرهم على عتبات المدينة، تهجّأوا في صغرهم اسم مراكش كما تهجّأت اسم قبيلتي الجميلة “الرحامنة “

هنا أيضاً في غمار البهجة، كان لشبابنا صولات شغبه الجامعي الجميل، والجولات على الأقدام، تترك خطاك تقودك إلى ما يذهلك، كأكوام البهارات الملونة التي لا أعرف إلى اليوم كيف يمدونها كأهرامات صغيرة لا تخرب. والأعشاب المجفّفة الآتية من جبال الحوز، وبسطات الخضر التي ترصّها النساء في أزقّة الدروب العتيقة. خضروات ومنسّمات وفواكه تجعلك تحسّ بنفسك طازجاً مثلها. تشتهي لو بيديك سلّة صغيرة من قشّ حتّى تعود إلى الطهي في طاجين فخّار على الخشب.

في هذه الدروب أيضاً وجوه الشيوخ كمدن قديمة تتكلّم دون أن تنطق، على جلابيبهم دفء قرون من المغاربة وعلى أيديهم بركات أوليائها السبعة.. مراكش تسمّى أيضاً “مدينة السبع رجال”.
في هذه الدروب التي تظلّل أسقفها عريشات القصب المجدول، يتلقّف قلبك جمال ضحكات الجيران ورائحة شاي الأمهات بالنعناع.. و”التخالط” هي أعشاب المغاربة الطبية والعطرية للشاي، العالم السري للشاي المغربي ولـ”تشحيرته”. هذه الكلمة التي لا أجد لها مقابلا في الفصحى يحكي أصالة إعداد الشاي المغربي.

تعترش قلبك في مراكش أزهار النارنج واللوز وغرسات الحبق والغنباز والورد الدمشقي ونسمّيه “البلدي”. تستمرّ في التقدم ومنح نفسك إلى البهاء الممتدّ وصولا إلى “القصبة” وقصري “البديع” و”الباهية”. الأوّل بناه السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، والثاني بناه الوزير أحمد بن موسى، على عهد السلطان العلوي المولى عبد العزيز، الملقّب بـ”حماد”. والأخير مات قبل أن يرى جماله الصامد بعد قرون إلى اليوم. ترك لنا أيضاً قصصاً كثيرة نخمّنها عن “الباهية”، المرأة الجميلة التي سمّي باسم جمال الله في خلقها.

يقولون عن مراكش أيضا إنّها “الحمراء”. يلوّنون الاسم بليالي المجون التي يتقصّد آلاف من عشّاق المدينة استحضارها فيها، وينسون قرميد المدينة الأحمر، أسوارها التاشفنية (نسبة إلى مؤسس المدينة يوسف بن تاشفين) من تراب أحمر، متغافلين عن الوجوه الحمر النضرة وهي ترعى بساطة ونقاء المدينة وجمالها… فتنتها لا تقاوم وسحرها طاغية. يعرف ذلك أهل المدينة لكنّ لسان حالهم ما ترسّخه التجربة عن البشر. فـ”ابن آدم طوب وحجر” (أي أنّ ابن آدم أنواع، كما هو الحجر أنواع). كلّ يحمل إلى مراكش شخصيته. يغادرونها ولا تغادر هي كلّ طيب.

هذه مراكش أكثر من مدينة لقلبي، وأكبر من عمر ذكريات.. إنّها حياة تتبدّى لمن عرف إليها السبيل، تحبّ من تعرف قدماه دروبها العتيقة معرفة قلبه لروحها الزهراء.