الرئيسية » الأرشيف » قصة قصيرة : حياة قصيرة جدا

قصة قصيرة : حياة قصيرة جدا

الكاتب: 
سامي صبير -مراكش24

لم يشعر بأي شيء من حوله وكأنه ما زال نائما .. عيناه مفتحتان تبحلقان في سقف الغرفة القصديري، شعر بهزة خفيفة .. سمع صوتها الكئيب يطلب منه النهوض بنفس النبرة اليومية .. أدار عيناه في الغرفة وكأنه يحاول التأكد من نفسه .. رأى نفس الزوايا الأربع القصديرية والطاولة الخشبية الحقيرة، حتى رائحة الغرفة النتنة لم تتغير، هنا أفاق من شروذه.
انتفض جسمه الصغير من مكانه ومشى بخطوات متثاقلة إلى الباب .. عبر الزقاق الضيق ليستدير جهة اليمين .. واصل سيره حتى بلغ الشارع الواسع وتوقف عند الدكان الواقع في الزاوية الذي اعتاد أن يبتاع منه علب السجائر، نفس المسار يسلكه يوميا حتى أضحى يقطعه بدون النظر أو التوقف عند أي إشارة.  
الكل يناديه “ولد الشيخة” فهو لم يعرف والده قط .. لكن لم يضايقه هذا أو يرغمه على معرفة من عاشر والدته في تلك الليلة العابرة، أدرك منذ البداية أنه لن يكون أفضل من سكير يهشم رأسه كل ليلة..
كان أحد ملايين الأطفال التي تبيع السجائر في الشارع بعدما سرقت منهم الطفولة .. يمضون ساعات بمعدة فارغة في محاولة بيع سيجارة إلى أشخاص تراهم سكارى وما هم بسكارى .. وفي المساء يقصدون المزبلة للبحث عن شيء يلبس أو يباع.
انتهى من جولته الصباحية رفقة صديقه الوحيد .. أخذ يبحث عن قطعة جافة من الرصيف ليهوي عليها بإرهاقه وهو يشتكي من الحياة .. ارتسمت على وجهه نظرة غريبة، شعر برغبة قوية في الصراخ ولعن حياته، بل ود لو كانت بيده سلطة القرار ليختار حياة أفضل من العيش على الزبالة وسط القصدير، كل شيء في تلك الحفرة الكريهة العفنة يشعره بالاشمئزاز من نفسه، ويعاقب ذاته لدعوتها ظلما وبهتان “حي باريس” .. لكنه فيما يشبه اليأس أو هو إدراك للحقيقة الجافة تنازل عن رغبته في الصراخ .. حتى وإن كان لديه فقط قليل من الرغبة في أن يصبح إنسان أخر، فإنه لا يملك يدا في ذلك .. مثل ما اعتاد الجميع القول، في هذه الحفرة ولدت وستموت دون أن تعيش فهذا قدرك ولا سلطة فوق القدر.
راحت عيناه تتأملان جانب وجه رفيقه دون أن ينبس بأي كلمة .. عرفه كما يعرف طريقه طيلة 14 سنة، لكن هذه المرة أحس بغرابة هذا الجانب من الوجه وكأن كل شيء فيه يتغير وتزداد كآبته وسأله:
– كيف تشعر..؟ !
ولم يجب على السِؤال كأنه لم يسمعه .. أو أنه حقا لم يسمعه .. ثم حاول إعادة سؤاله مرة أخرى
– كيف تشعر ..؟
وهذه المرة أجابه
– ماذا تعني .. لم أفهم سؤالك
– ألا تشعر بأن لا أحد يحبك في هذا الشارع؟
قال بتعجب
– لا يهم.. فلطالما بحثنا فيه فقط عن لقمة العيش !!
– وهل تظن أن حياتنا هذه عيش
– ماذا تعني
– لا أعلم .. لكن لم أعد أحبك هذا الوضع 
ثم قال بسخرية أو رغبة في تغير الموضوع:
– ربما هو فقط تأثير الجوع والشمس التي طبلت فوق رأسي اليوم بطوله .. ومد يده إلى علبة السجائر الرخيصة أمامه وهو يسأله :
– أتريد سيجارة ؟ !
– منذ متى وأنت تدخن ؟
– منذ هذه اللحظة .. لا بد أن أحدث تغيير في حياتي .. ووضع السيجارة في فمه بصمت دون أن يشعلها أو أنه نسي إشعالها .. شعر بلكزة على كتفه وصديقه يخبره بأن شخص في الجهة المقابلة للشارع يريد سجائره.
لم يسمع صوت السيارة لكن أحس بالصدمة ثم سقط وأغمض عيناه ومات.