الرئيسية » 24 ساعة » إيف سان لوران في مراكش: تمر الموضات ويبقى الأسلوب

إيف سان لوران في مراكش: تمر الموضات ويبقى الأسلوب

ميشرافي عبد الودود

على طول الطريق المؤطَّر بشجرات النخيل الذي يفصل محطة “باب دكالة” بمراكش عن متحف”إيف سان لوران”؛ كنت أعدّ الخطوات و أخطأ في العدّ متعمّدا و سعيدا كتلميذ زائغ من الفصل الدراسي، بين خطوة و أخرى يطالعني وجه شقراء يتصفح الدليل السياحي في ثقة، ملقيا بالتحية المرحبة بجميع اللغات، فأرد على التحية في لغتها ولا أنسى الابتسامة…هذه مدينة يرحب فيها الغرباء بأبناء البلد؛ تسير فيها الشقراوات في تنانيرهن القصيرة جنبا إلى جنب مع النساء الملتحفات الحايك كظلال تلاصق جدران المدينة العتيقة بمقتضى عقد مبرم خفي: الضيف هنا يتحول إلى مضيف.

العاشرة إلا ربع أمام متحف إيف سان لوران بمراكش؛ زحام أمام المبنى الأنيق، طلائع السياح الآسيويين في المقدمة، يليهم الألمان والهولنديون بقاماتهم الفارعة، وتقشف الأسبان وأناقة الفرنسيين في المؤخرة، فيما يتخلل الطابور الطويل سياح عرب ومغاربة. الكاميرات لا تكف عن التقاط السيلفي على خلفية صور مصمم الأزياء الفرنسي التي تزين زاوية المبنى، ورطانة مرحة بجميع اللغات، بانتظار فتح الباب أمام الزوار.

حركة دؤوب أمام بوابة المبنى، عناصر الأمن وطاقم الاستقبال ببدلاتهم الزرقاء الأنيقة يذرعون المكان جيئة و ذهابا كعقارب الساعة، يردون على استفسارات الزوار مرحبين، يتكلمون بثقة إلى رؤسائهم الذين يستمعون باهتمام.  لدى صخب المنملة البشرية تقديس للعمل بغض النظر عن السلم الاجتماعي.

المبنى الذي يتربع على مساحة أربعة آلاف متر مربع، مطلا بواجهتيه على شارعين، يعتبر “مثالا للبساطة و الجمال”،”عمارة معاصرة و مغربية في آن معا”، يعتمد بالأساس على الطوب الأحمر الذي تنفرد به المدينة، عبر خلق سلسلة من الأشكال  الهندسية تتوزع بين الخطوط البسيطة و المنحنيات الأنيقة، ليكون منسجما مع العمارة التقليدية للمدينة لكن بطابع عصري، وتشكيلة من الألوان تتدرج بين الوردي و الأحمر المراكشي. “التصور استحضار ذكي لحبكة القماش حيث تتشابك الخيوط”، في تعارض متعمد كاشف مع الداخل ” الذي يشبه تبطين الثوب الناعم، و المضيء، يُشعِر الزائر بالراحة و بالهدوء”.

العاشرة بالضبط يفتح رجال الأمن الشباك الحديدي ببطء شديد؛ حماسة تستبد بالسياح المتهللين الذين ينتظرون بطيبة دخول ذوي الاحتياجات الخاصة بصحبة مرافقيهم.

ألقي نظرة على ناصية الشارع على بعد أمتار قليلة؛ ثمة حركة غير عادية، حافلات سياحية متوقفة و أخرى مغادرة، سيارات أجرة فاخرة، و عربات خضراء تجرها خيول أنيقة، في خضم ذلك يبدو مدخل البناية الزرقاء كفوهة منملة يضج بالحركة؛ إنها ليست شيئا آخر سوى حديقة ماجوريل النباتية. هذه الواحة التي شيدها الفنان الاستشراقي في ثلاثينيات القرن الماضي؛ كما شيّد الفيلا الأستوديو بأسلوب العمارة الأندلسية و الآرت ديكو في قلب الحديقة:  تعتبر بوابة المغامرة.

مسارات متقاطعة

بغض النظر عن الجغرافيا و التاريخ، فإن مسارات الإبداع غالبا ما تتلاقى وتتقاطع، و يحدث أن يكمل بعضها مسار الآخر: 1962 تاريخ مشترك بين جاك ماجوريل و إيف سان لوران؛ في هذا التاريخ بالذات غادر الفنان الاستشراقي هذا العالم، وفي نفس السنة اقتحم مصمم الأزياء الفرنسي عالم الموضة والأزياء الراقية. في عام 1966 اقتنى إيف سان لوران منزلا في المدينة العتيقة بمراكش، ثم قام في عام 1980 بإنقاذ حديقة ماجوريل المهجورة التي كان سيتم تحويلها إلى فندق، وأنشأ رفقة صديقه بيير بيرجي متحف الفنون الأمازيغية.

إيف سان لوران مدين لجاك ماجوريل بالكثير، و”الحديقة الانطباعية” التي تسبح في شبكة عنكبوتية من الظلال الكثيفة والشفافة تحت أشجار البامبو الباسقة لا تشكل فقط ألوان مصمم الأزياء الفرنسي، بل تعدّ الملْوَنة الهائلة التي يستقي منها مزيج ألوانه كلها. بشكل ما القلوب المحفورة بسهم عاشق في الوسط التي يوقعها الزوار بلا عدد على أشجار البامبو – التي توقفت سرقتها في الحديقة من طرف الصيادين –  خير تعبير  بالنيابة عن الامتنان وعرفان الجميل  للفنان الإستشراقي.

بعد أربعة عقود كان من الطبيعي توأمة هذا الحب المشترك الذي جمع بين الفنانين و لو بفارق بإطلاق مؤسسة حديقة ماجوريل المتحف المخصص لإيف سان لوران في الشارع الذي يحمل اسمه على بعد بضعة أمتار من “كاتدرائية الألوان” التي تعد اليوم إحدى أهم الوجهات السياحية في العالم.

بخطى رشيقة تتقدم نحوي مديرة العلاقات العامة السيدة زهور بلحاج مرحبة، لتأخذني في جولة مرافقة للمعرض الدائم لإيف سان لوران؛ بمجرد عبور شباك التذاكر، نتوقف قليلا في البهو الدائري الذي يسبح في دانتيلا من الآجر الأحمر يتباين مع زرقة السماء. في الوسط، الأحرف الأولى للعلامة التجارية الشهيرة تحتل أكثر من متر تزين الجدار الخرساني المطروق. الفضاء الذي يعج بالحركة و الحياة يبدو وفيا لوعده، الخطوات الأولى المكتشفة تتعجل المضي قدما في المسرح الساحر الذي تتناوب الظلال و الأضواء على هندسته.

حالما نعبر إلى الداخل، نجد أنفسنا في الضيافة الدافئة التي تغمر المكان، و مصدرها الإضاءة الذكية التي يرسلها زجاج النوافذ الملون الذي يتدرج من الخفوت الشديد إلى الساخن جدا، و تنعكس على أرضية البلاط البيضاء. المساحات الخضراء للزليج المغربي تغلف المكان في غلالة شفافة و مرحبة.

سحر الزليج

يمكننا قراءة اقتباس لإيف سان لوران على أحد جدران المبنى”على الرغم من ألفتي بالضوء و ألوان شمال إفريقيا، فلم أدرك أن مزيج ألواني هو الزليج،الزخرفة المغربية، الجلباب و القفطان، إلا في وقت لاحق، عندما اكتشفت المغرب.أنا مدين لهذا البلد بالجرأة المنسوبة لي منذ ذلك الوقت، بصخب التناغمات، بجراءة المزوج، و حرارة الابتكارات. هذه الثقافة أصبحت ثقافتي، غير أني لم أكتف باستيرادها، بل قمت بإلحاقها، تحويلها و تكييفها”.

صورة مصمم الأزياء الفرنسي بجوار أحد أعماله الفنية الأكثر شهرة، تحت الإضاءة المسرحية و الخلفية السوداء، تستقبل الزوار لمرافقتهم في جولة تختزل أربعة عقود من الإبداع الذي تضمه صالة العروض الدائمة. من يصدق أن هذا الظرف الجسدي الهش المليء بالعلل و التناقضات يمتلك كل هذا الهدوء و السلام فيما تنفصل عن عينيه اللتين تطفوان على سطح الظلال العميقة تلك النظرات المتمهلة التي لا تستبق الزوار  برمش واحد، بل تكتفي بإفساح الطريق فقط..حتى تحافظ المرافقة على شروط اللياقة الفرنسية المتعارف عليها. إنها النظرة “الاستباقية” التي تؤنث عالما ذكوريا كفاية : نظرة “السيدات أولا”…

السيدات أولاً 

“السيدات أولا…” في عالم ذكوري أكثر مما ينبغي؛كان هذا هو المشروع الاجتماعي/الجمالي الذي اقترحه مصمم الأزياء الفرنسي : تأنيث العالم الذكوري، لم يكن ممكنا إلا عن طريق تذكير المرأة. قبل إيف سان لوران لم تكن تحلم المرأة بأن تكون متواجدة في الزمان و المكان؛ كانت موجودة كمادة فقط…ثم أتى من أوجدها بالفعل في الميادين العامة، بإخراج “الهيولى المؤنثة” إلى “الصورة”، أي  إلى الحركة في الواقع الحقيقي. و هذا ما لا تنساه المرأة الحديثة لمصمم الأزياء الفرنسي.

إيف سان لوران جعل الإناث يرتدين  ملابس الذكور لأول مرة، و قام بدمقرطة الزي الرسمي، بحيث أصبح في متناول الجنسين معا، “حتى قبل الثورة الطلابية عام  68″، في وقت كان محظورا على النساء ارتداء البناطيل في أماكن العمل؛ تجرأ الفرنسي على تصميم السموكينغ ،جاكيت الكاكي العسكرية،و بنطال العمل النسائي. “نساء إيف سان لوران خرجن من الحرم، من القلاع، و حتى من الضواحي، و نزلن إلى الشارع” تعلق الروائية الفرنسية ماغريت دوراس.

في خفر هذه النظرة الاستباقية “السيدات أولا…” التي أخذت على عاتق رموشها تأنيث العالم، يتابع الزوار جولاتهم.

الدخول إلى صالة العروض الدائمة يشبه اقتحام مغارة مسحورة في ألف ليلة و ليلة: على مقربة من الساقية الصغيرة التي تنثر خيوطها المائية، ينتصب باب الصالة الموارب . مغلقا على مساحة أربعمائة متر مربع. الفضاء الطقوسي يتخذ من الأسود طلاء من البلاط إلى السقف.

 في مدخل الصالة، يستوقفك فستان موندريان الشهير – كعمل فني- استوحاه مصمم الأزياء الفرنسي من الأعمال الفنية التجريدية للفنان الهولندي موندريان، و لا يزال رمز  موضة الستينيات ملهِما و مستقبليا حتى الآن: قَصّة واحدة انسيابية بخطوطها الهندسية البسيطة متصادية مع التدرجات اللونية الدافئة تحوِّل شكل التفصيل إلى لوحة فنية. إيف سان لوران قام بإحلال النموذج الأنثوي الأمثل محل النموذج السيئ، بإخراج المؤنث من الظل إلى بؤرة الضوء بهدف تنظيم هندسي بصري للفضاء الاجتماعي و العلائقي. الأكيد أن النساء في أرجاء العالم التقطت الرسالة جيدا.

قادني هذا الفستان القصير  للتفكير في شيء آخر: لقد كان إيف سان لوران بطبيعته الانسانية الهشة منحازا دائما للنساء، و انحازت أيضا دار الأزياء الرفيعة التي أنشأها إلى شيء واحد على مدار أربعة عقود: إسعاد النساء. سعادة إيف الشخصية بحسب شهادات المقربات من الزبائن و العاملات تمثلت في إسعاد النساء؛ بمعاملتهن كملكات بغض النظر عن المرتبة أو المركز ،دون الوقوع في فخ النظرة الإستشراقية التي تفرغ المرأة من المحتوى.

لم يكن إيف سان لوران استشراقيا بأي معنى من المعاني، أو حاملا للإرث الاستعماري المقنع: كان إشراقيا على غرار آرثر رامبو؛ لم لا؟ و الفتى إيف كان لا يفارقه الكراس الشعري “إشراقات” منذ وقت مبكر. يحضرني الآن فيما أتوقف في المعرض الدائم إزاء كل فستان النص الشعري “مَلَكِية”:

أريد أن أكون ملكة!

ذات صباح جميل، لدى شعب بالغ الرقة، كان رجل و امرأة رائعان يصرخان في ميدان عام: “أصدقائي، أريد لها أن تصبح ملكة”، “أريد أن أكون ملكة”. كانت تضحك و ترتعش. و كان يحدث أصدقاءه عن وحي، و عن محنة انتهت. و كان يغمى عليهما الواحد على الآخر.

و بالفعل كانا ملكين طوال صباح كامل ارتفعت فيه الأستار الأرجوانية على المنازل، و طوال الأصيل، حيث تقدما نحو بساتين النخيل. (ترجمة رفعت سلام)

هذه “المَلكية” هي “رمية النرد التي لا تبطل الزهر” –  بتعبير ملارمي – التي راهن عليها مصمم الأزياء الفرنسي منذ البداية.  ليست “مَلكية” متوارثة موقوفة على السلالة النبيلة، إنما “مَلكية”  ب”الفعل”، مَلكية فردية و متفردة تختص بالذات المؤنثة في أي مكان و زمان، تجعل من كل امرأة ملكة تقود شعبا متنورا في غاية التحضر و الأناقة و الرقة، شريطة أن تهب إلى الساحات العامة لتحقيق هذه الذات. هكذا تحققت نبوءة رامبو الشعرية بتتويج نساء إيف سان لوران  _ الممتلئات و النحيفات، من مقاس 34 حتى 44 _ كملكات فقط برفع الستائر  الثقيلة و خروجهن من الحرم… لكن إلى بساتين مراكش هذه المرة.

عندما تركت المعرض برأسي المزدحمة بالصور و الجمال؛ توقفت أمام فيلا إيف سان لوران التي لم تفتح بعد للجمهور منخرطا في رؤياي:

إيف سان لوران الإشراقي أبدع حياته، كقماش اشتغل عليه طوال العمر تفصيلا تفصيلا، كان يعيد نحت “كاتدرائية الألوان” التي أبدعتها أنامل جاك ماجوريل. ذات مساء بينما كان يجلس على مكتبه القصبي في مراكش؛ المكان الأثير لمباشرة رسومات المعارض. النافورة الزرقاء بمواجهته في الحديقة تنفث مياهها باستمرار. لقد انتهى للتو من وضع أخر رتوش على القماش.  و رفع بصره لينظر الى كاتدرائية الألوان تحت أشجار البامبو الباسقة التي تنعكس على مياه النافورة في الأضواء البنفسجية لشمس الأصيل للتأكد من مدى التطابق بينها و بين القماش الذي اشتغل عليه طوال حياته. بطريقة ما بدا راضيا عن النتيجة مما جعله يضع توقيعه الأخير كنهاية للمشوار الطويل: فيما كان يتراجع إلى الوراء بظهره المتعب أبصر فجأة كاتدرائية الألوان تميل بشموخها و  تقع في الحوض المائي الذي ابتلعها في لحظة و تمددت شفرات المويجات الشفافة. شعر إيف بقشعريرة على غرار القشعريرة التي علقت دوائرها المائية الصغيرة على السطح الأملس. تناول إيف قلم رصاص ستاندلر الرفيع و كسره بين الأصابع. كان يعرف أن كاتدرائية الألوان التي اشتغل عليها طوال حياته سيكون مآلها الغرق في الماء. لكن عزائه أن “الموضات تمر و يبقى الأسلوب”، و يمكن عكس مسار الزمن و تحويل الذكريات و الأطلال إلى زمن مستقبلي “بحثا عن الزمن المفقود”.

الأكيد أن النساء في أرجاء شتى من العالم، ستظل تتذكر مصمم الأزياء الفرنسي الذي “أوجد للمرأة أسلوبها، وجعلها تشعر بالراحة في ملابسها، و تعيش في انسجام معها، بشكل يعزز الثقة لديها في نفسها، و يسمح لها بحرية التصرف”. ف”ليست الموضة إرضاءا لغرور نزوات فئة معينة. على العكس من ذلك، أردت دائما أن أضع نفسي في خدمة النساء، خدمة أجسادهن، حركاتهن.. مواقفهن، وحيواتهن. أردت مرافقتهن في حركة التحرير العظيمة التي شهدها القرن الماضي”.

هكذا صار بإمكان المرأة “أن تكون جميلة، بمجرد أن ترتدي سترة سوداء، تنورة سوداء، ورجلا تحبه يمسك بذراعها”. “فالأناقة ليست شيئا آخر سوى أن ننسى بشكل كامل ما نرتدي” يقول إيف سان لوران.

العربي

.