الرئيسية » 24 ساعة » معجزة ” المجاذيب” في الحديث عن الأمن المغربي العجيب .

معجزة ” المجاذيب” في الحديث عن الأمن المغربي العجيب .

أحمد بوناس

وأنا أتصفح كعادتي مساء كل يوم ما تكتبه الأقلام المغربية على المواقع الإلكترونية , صادفت  على موقع إخباري يهتم بالشؤون العربية “مقالة ” مصنفة في ركن ” كُتاب الرأي” ,  تتناول موضوع الأمن في المغرب “, وفي الحقيقة عند الإنتهاء من قراءة ما جاء فيها وجدت أنها تستحق الكلام والتحليل بإسهاب , لأنها تشكل مادة نموذجية للمهتمين بدراسة الخطاب الموجه للمؤسسة الأمنية في المغرب , و رصد مسببات ركوده وجموده , وإرتباطه بالثقافة الشفهية, وكذا ضعفه على مستوى التحليل الموضوعي , و  ضعف الرصيد اللغوي والمعرفي المرتبط بالشأن الأمني لدى كاتب المقالة,  .وسأبسط محاولتي هاته عبر 3 أقسام ,سأخصص القسم الأول لتحليل هذه المقالة على ضوء المعايير المهنية المعتمدة في عالم الصحافة و التعبير عن الرأي , فيما سيكون القسم الثاني مخصصا لتقييمها على مستوى المرجعيات الفكرية لكاتب المقالة عبر محاولة لتحديد هويته المعرفية,  وذلك إنطلاقا من قاموسه التواصلي المعبر عنه بالكتابة , وسأدون عبر  القسم الثالث مجموعة من الإنطباعات والأفكار الخفيفة الخاصة بهذه المقالة وكل هذا طبعا بصدق وأمانة و دون التقليل من الإحترام الواجب لكاتب المقالة.

1 الغضب .القلق والمثالية  …ثالوث يقتل الموضوعية ويحاصرنا وسط  الذاتية .

يصعب على القارئ أو المحلل  إدراج هذه المقالة تحت أي تصنيف إعلامي , سواء في خانة الأراء أو في خانة التعليق , و هي في رأيي المتواضع لا تعكس الواقع الأمني بشكل دقيق وصائب , ويرغب كاتبها أن يقنعنا  أنها مرأة لغضب شعبي عارم , وهو أمر غير وارد حاليا  إذ تؤدي هذه المؤسسة المواطنة مهامها الدستورية والمؤسساتية وفق ضوابط قانونية ومهنية واضحة  , اللهم بعض الإنتقادات والتظلمات والشكايات التي تندرج في سياق تغييراتها الإستراتيجية , و بناءا على هذه المعطيات يمكن إعتبار هذه المقالة غير مناسبة للسياق الوطني العام , ويمكن تصنيفها  ضمن خانة المقالات  غير المتماسكة التي تحرق المراحل بشكل فوضوي,  و لا يمكن أن تكون في أحسن الأحوال نصا أدبيا , ولا ترقى لمستوى العمل الصحفي, إذ تعكس خللا واضحا في أليات التواصل التي إعتمدها كاتب المقالة لتمرير رسالته , سواء حاولنا وضعها في الميزان الأكاديمي أو في الميزان الطبيعي للتخاطب عبر ركن “الأرٍاء الحرة” المخصص في الأصل للنخبة التي يجب أن يكون لها من الإمكانيات الأكاديمية والزاد المعرفي ما يؤهلها لتقييم الوضع الأمني في المغرب , ,ومن السهل نعت  هذه المقالة بالإنتهازية نظرا لمساسها  بجدية المؤسسة الأمنية .

لم تعتمد المقالة  لا على المعايير المهنية ولا الأخلاقية للصحافة,  ولا حتى مناهج البحث العلمي حيث إعتمدت على واقعتين معزولتين ليطلق الكاتب مخيلته ويفجر حقدا مبالغا فيه إتجاه  المؤسسة الأمنية , وحتى وإن كانت هذه المؤسسة تتحمل في سنوات الثمانينيات والسبعينيات جزءا من المسؤولية في ملفات حقوقية شهيرة إلا أن التخاطب معها عن طريق الرسائل المفتوحة يستوجب إستحضار القواعد الأساسية  للنقد  الموضوعي المبني على نية حسنة واضحة تهدف لتحسين أداء هذه المؤسسة أو تطويرخدماتها . لا لتفريغ كم من الحقد المجاني وغير المنطقي .

2 كلام مجدوب …. قصص الأزلية وحيوانات مفترسة تنبؤنا بيوم ما بعده يوم

 

بعد تفكيك وتجزيء المقالة يجد القارئ المتمرس نفسه أمام كاتب مرتبك يحمل أفكارا مشتتة تعتمد على مفاهيم و مصطلحات من مشارب مختلفة و غير متناغمة  على الإطلاق لا تستطيع كقارئ مهتم مزجها في نص ذو قيمة إدراكية وكل ما يجمعها في ما بينها هو الفوضى التي خلقها الكاتب و يبدو التردد سيد الموقف خلال كتابة هذه المقالة ويمكن لنا بسهولة أن نلمس أن الكاتب تعمد إخراج هذا النص من زاوية ذاتية  حين كتب ..(وقد يقول رأي يدعي الموضوعية) .. كتابة المقالة مرتبطة أيضا  بالصدمة التي تلقاها كافة المغاربة بعد وقوع جريمتين معزولتين للقتل  و في نظر الكاتب أن هذا التوقيت مناسب لإثباث فكرته الرئيسية الواضحة التي يمكن أن نلخصها على الشكل التالي :(الدولة مسؤولة عن تردي المستوى الحضاري للمواطنين وهي ايضا مسؤولة عن العنف والجريمة في كل الأحوال ) وهي في الأصل فكرة سطحية وسهلة  ظل يرددها المواطن البسيط الذي لا حول له ولا قوة منذ ستينيات القرن الماضي أما أن يعيد إنتاجها كاتب باحث ويعتمدها كمنطلق فكري لتحليل الواقع الأمني في المغرب فهي تزيد من إضعاف منتوجه وتجعله دون المستوى الفكري المطلوب.

كما يبدو واضحا و بجلاء إستعانة كاتب المقالة بكلمات من قاموس الحكايات الشعبية و الشفهية التي تروي قصص وملاحم أبطال من الأزمنة الغابرة وترتبط بتاريخ الحروب التي عاشتها الإنسانية و كنا نستمع بإمعان لتفاصيلها المليئة بالتشويق عند الحكواتيين , وإقتبس كاتب المقالة كلمات من قاموسها الخرافي ليسقطها بسهولة على واقع الأمن في المغرب إذ إستعمل كلمات من قبيل : (سفك الدماء)..(وهاهي السيوف تنطلق)..(.وهاهي الأعناق تذبح من الوريد إلى الوريد) …(يصرخ من السيوف) ..(أيها الأنبياء الجدد) …(بكاء الأطفال الأبرياء) …(دمائهم العطرة) ….( دماء تسيل أمام عتبات البيوت) .. و كلمات مماثلة تعكس جزءا من االوصف العام الذي إختاره كاتب المقالة لتمرير فكرته الرئيسية والتي لا تتناسب مع الواقع الأمني الفعلي في المغرب سواء كان المغاربة مقتنعين بنجاعة الخدمات الأمنية المقدمة أولا وهو ما يجعل المقالة تفتقد للحس الموضوعي ويعكس أيضا إرتباط  الكاتب بالماضي وكذا إرتباط أحاسيسه الداخلية  بماضي لم يدفن بعد و لا زالت مخيلته الأدبية حبيسة في تواريخ هو وحده يعلمها …

كاتب المقالة إعتمد أيضا في صياغة هذه المقالة على  مصطلحات مستعارة  من قاموس البرامج التلفزيونية المتخصصة في توثيق وتصوير حياة الحيوانات المفترسة والضارية  حيث نرصد كلمات من نوع :  مفترس ..أكبر مفترس …الإنقراض …شجرة الإنقراض …يأكل بعضه البعض …يقتل بعضه البعض …وحش كبير يفتك بكل شيء في طريقه ..الثأر من بعضهم البعض … تحول إلى أكبر مفترس لنفسه …الضعيف يأكل الأضعف منه… وكلها كلمات  مستوحاة من قاموس التعليق الصوتي  على البرامج التلفزيونية التي ترصد الحياة في الغابة وفي المستنقعات الإفريقية والمحميات الطبيعية المهددة بالإنقراض … و لم ينجح كاتب المقالة في إدماجها عبر وصفه لواقع الجريمة في المغرب وظلت  لا تتناسب مع باقي مكونات المقالة (المشتتة أصلا)  و يمكن تصنيفها في خانة الكلمات الدخيلة التي ظلت غير متناغمة مع المادة الأدبية .

وتحمل المقالة مجموعة من الكلمات التهكمية الواضحة إتجاه الدولة دون أن يوضح الكاتب دوافعه الشخصية أو السياسية لهذا التهكم و الإستهزاء وكذا التلاعب بكلمات مثل المعجزة و الدولة العظيمة . تلفزات المخزن .جرائد المرحاض .. الإهمال الممنهج، في الفتك بعواطف الشعب، وتفقيره وتجويعه،….

3 كلمات روحانية  أكبر بكثير من المؤسسة الأمنية

 

وعلى العموم أجد  أن كاتب المقالة بالغ جدا في تقييم الوضع الأمني  بالمغرب حتى وإن إنطلق  من زاوية ذاتية وهذا إن لم أقل أنه مبالغ فيه جدا. جدا.. لحد غرقه في منزلقات  ذاتية شبيهة بأفكار  المجاذيب المغاربة حين يتكلمون عن فساد الأخلاق و تردي الأوضاع الإجتماعية خلال القرن الماضي . ويستهوي المغاربة  كلامهم المنظوم على شكل زجل  للإستئناس به وتخليق   معاملاتهم الإجتماعية و لا يمكن إعتماد هذا الكلام الموزون  لرصد أحوال المجتمع المغربي إلا من زاوية ذاتية تلقي الضوء على المجاذيب كمكون  ثقافي للتراث الشفهي في المغرب نظرا لأسباب أهمها هو التعميم الذي يطلقه المجاذيب لوصف أحوال المجتمع و هو ما نستنتج منه أن المقالة  تفتقد للجدية وتختار الإرتجالية   في نقل الفكرة الرئيسية للكاتب والتي لم تخلو من التعميم في مرات متعددة حين كتب: (المجتمع المغربي كله يبكي الآن، كله يصرخ… ) وسارع للإستدلال عليها إنطلاقا من تعدد الجرائم وفق رؤيته الخاصة   وبالتالي تحميل المسؤولية الكاملة للمؤسسة الأمنية و هذا تحليل غير منطقي لا يمكن أن يشكل نواة للنقاش ولا يمكن إعتماده كأرضية صلبة لا للنقاش ولا التناظر   في أفق المساهمة في تحسين الخدمات الأمنية وفي المقابل أجد أن كاتب المقالة ختم مقالته بكلام و بمقترحات مقبولة تهم تدني المستوى الثقافي لعدد من المغاربة وإمكانية مساهمة هذا المعطى في إرتفاع الجريمة في المغرب .والدعوة لمحاربة الجريمة عبر تعزيز الدور التربوي والثقافي للمؤسسات الحكومية.

وختاما لا يفوتني أن أستنبط الفكرة الجوهرية التي يرغب كاتب المقالة في تمريرها للقراء حتى وإن كنت أرى أنها ليست عين الصواب وهي في الأصل تعبر عن رغبة داخلية لكاتب المقالة في إعادة بناء الإستراتيجيات العامة للدولة وقد وضعتها ببساطة على الشكل التالي :

” الجرائم التي وقعت مؤخرا,  بينها رابط وليست وليدة الصدفة والدولة هي المسؤولة المباشرة بعد أن قامت بتهميش الركائز التربوية والثقافية للمجتمع “.