الرئيسية » الأرشيف » المَاءُ بمراكش في بداية الحماية الفرنسية

المَاءُ بمراكش في بداية الحماية الفرنسية

الكاتب: 
ذ سمير أيت أومغار مراكش 24

يستدعي البحث في موضوع “الماء بمراكش في بداية الحماية الفرنسية” الانطلاق من بعض الملاحظات المنهجية الضرورية:
يشكل موضوع الماء مُكونا من المكونات البارزة التي التفت إليها التاريخ الجديد، من خلال الأبحاث التاريخية المتميزة حول الثقافة المادية التي يمكن اعتبارها حلولا أوجدها الإنسان في سياق علاقته بالمُعوّقات المادية التي تؤثر في حياته. و هي مرتبطة نتيجة لذلك بالبُنى التحتية، لكن لا يمكن أن يكون الإنسان غائبا في النهاية عنها ما دامت هناك ثقافة.
و هو وضع اسطوغرافي كان له أثر واضح على الكتابة التاريخية المغربية التي بدأت تهتم منذ سبعينات القرن العشرين بتاريخ الحياة اليومية من خلال فتح ملف الأغذية و الاشربة و المنبهات و اللباس و التقنيات… لكنها ظلت متقوقعة – رغم انفتاحها – في إطار زمني مُحدد غالبا ما يهم زمن ما قبل الحماية. فباستثناء بعض الأعمال القليلة حول تطور الأقليات اليهودية و الصحافة و السياسة الصحية و جهاز سلطة الحماية، فإن كتابة تاريخ هذه المرحلة حسب عبد الأحد السبتي لا زالت تختزل تجربة الحماية في المقاومة المسلحة و الحركة الوطنية، بحيث يتم تهميش جوانب هامة مثل تداخل أنساق السلطة، و تطور البنية الاجتماعية و التحولات الثقافية و الحياة اليومية.
لا شك أن هذا الوضع له انعكاس سلبي على أي عمل يروم البحث في الثقافة المادية بالمغرب زمن الحماية، مادامت التراكمات العلمية في الموضوع لم تحقق خطوات مهمة منذ سبعينات القرن العشرين. فهل نحن قادرون على الخوض في تاريخ البنيات في الوقت الذي لا زال فيه تاريخ الحدث غير واضح بشكل تام؟
يؤكد عبد الأحد السبتي مُجددا في إحدى محاضراته على أن عملية تجديد كتابة تاريخ المغرب اقترنت بالخوض في تاريخ البنيات من دون انجاز حقيقي للمرحلة الحدثية، على أساس افتراض أن الشبكة الحدثية معروفة، لكن هذا مُجرد وضع عِلمي افتراضي. و السبب في ذلك هو أن التاريخ الاجتماعي مثلا ظل يتيح الاشتغال بعيدا عن الطابوهات التي تنتج الرقابة الذاتية.
هل يمكن البحث في قضايا الماء بالمغرب زمن الحماية في الوقت الذي لم تتم فيه دراسة مختلف مؤسسات الحماية المسؤولة عن تدبير الموارد المائية، و لم يُكشف عن وثائق المخزن العائدة لنفس الفترة؟ و هل يمكن للمؤرخ أن يقتصر على الصحف و الكتابات الأجنبية و التقارير الرسمية الفرنسية و الاسبانية لإعادة تركيب ماضي الحماية بالمغرب؟ ألن ينزلق المؤرخ آنذاك مع مصادره الأجنبية في تمجيد أعمال الحماية؟ فهل لنا و نحن ندرُس قضايا الماء بمدينة مراكش زمن الحماية و نُعرِّج على أعمال الصيانة للمنشآت المائية التي قامت بها السلطات الفرنسية بمعية المؤسسات و الأطر المغربية، أن لا نُثمِّن هذه الأعمال؟
الماء بمراكش فجر الحماية الفرنسية
مما ختم به غاستون دوفردان بحثه حول تاريخ مراكش (من التأسيس إلى 1912) الإشارة إلى أهمية الماء، و هو اختيار يبرره موقع الماء و دوره في نشأة المدينة و نموها، فقد كان النمو الحضري لمراكش مرتبطا باستغلال المياه الجوفية من خلال الآبار و الخطارات. و هو ما جعل الباحث يسارع للقول أن المدينة “لم تشك من العطش يوما”، رغم حالات الجدب التي ألمت بها منذ العصر الوسيط. لا شك انه لم يقصد في حديثه تتبع وضعية الماء بمراكش في الزمن القصير، لكن في إطار الزمن الطويل الذي أبان عن فعالية الخطارات في ضمان التزود بالماء داخل المدينة و خارجها.
و يذكر بورتو A. Pourtau الطبيب و مدير المكتب البلدي للصحة بمراكش (منذ شتنبر 1912) أن المدينة كانت تتزود بالماء قبل سنة 1912 بواسطة شبكة الخطارات ذات الأصل القديم، و التي تعرضت للتوسيع كلما تزايد الطلب على الماء. إضافة إلى الآبار القليلة جدا حسب ملاحظة بورتو، و مجموعة من السواقي المنبثقة من روافد تانسيفت (واد نفيس و واد غيغاية على الخصوص). و أهم الخطارات بمراكش بعد توقيع معاهدة الحماية، ثلاثة تعود ملكيتها للأحباس هي عين المواسين و عين البركة و عين القبة تعمل على تغذية المساجد و الحمامات و المغاسل و السقايات العمومية و بعض الحدائق.
و يصف احمد بن الشرقي حصري توزيع الماء على مدينة مراكش قبيل الحماية قائلا : “حينما يدخل الماء إلى المدينة ليوزع على المرافق العمومية و المنازل يقع توزيعه بواسطة قواديس فخارية يتراوح طولها ما بين 30 و 40 سنتمتر، و قطرها ما بين 10 و 15 سنتمتر تقريبا. و تتخلل مسيرة الماء نقط للمراقبة تسمى “المعدة” لمعرفة مواقع الخلل أو انقطاع الماء..و مياه المرافق العمومية تستهلك بالمجان، و هي على العموم ملك للأحباس العمومية يتولى الإشراف عليها الناظر، و يبيع الفائض منها لأرباب المنازل. و المقياس الذي تقاس به كمية الماء المبيع هو الأصبع أي مقدار أنبوب سعة قطره أصبع يصب في أحواض صغيرة في الدور يتجمع فيها لسقي الأشجار أو للاستعمال المنزلي، و الماء يشترى بصك يضاف إلى العقود العقارية”.
و يضيف موريس دو بيرينيي Maurice de Périgny في هذا الصدد أن جُل المنازل بمراكش تلجأ لخدمة الكراب للتزود بالمياه اليومية الضرورية، لكونها غير مرتبطة بشبكة التوزيع التي تحدث عنها احمد بن الشرقي حصري.
يلاحظ من خلال الأوصاف السابقة، أن تزود مدينة مراكش بالماء إلى غاية توقيع معاهدة الحماية يشبه إلى حد كبير ما كان عليه الأمر بنفس المجال خلال العصر الوسيط. فالخطارة و البئر و الساقية تقنيات كانت حاضرة بمراكش زمن الموحدين على سبيل المثال. فهل ظلت هذه التقنيات جامدة دون تغيير منذ العصر الوسيط؟ ام أن الصورة التي أراد الفرنسيون تمريرها للقارئ هي أن الجمود كان سمة طاغية على تقنيات التزود بمراكش إلى غاية الاحتلال الفرنسي الذي سيُعيد النظام و الهدوء للمنطقة، و سيُدخل تحسينات مهمة على مدينة مراكش؟
لا نريد أن ننخرط هنا في نقد محتوى بعض الكتابات الأجنبية حول مراكش زمن الحماية، لان ذلك يستدعي استعراض مجموعة من البراهين العلمية المُعارضة لما جاء فيها، لا الانجراف مع التيار الوطني في الكتابة التاريخية الذي حكمته العاطفة، و غلب على منطق قراءته للإنتاج الأجنبي زمن الحماية المنطق الصوري الذي يرى أن كل تأليف كتبه أجنبي زمن الحماية هو تأليف مُعاد للمغرب و لأهله.
مسألة الماء بحي كليز منذ 1913 :
يقع جبل كليز خارج سور مراكش في الجهة الشمالية الغربية، و هو يمثل النهاية الجنوبية لمجموعة مرتفعات تظهر بدايتها شمالا بعد الضفة الجنوبية لوادي تانسيفت. لكن اسم كليز ينسحب في الأدبيات التاريخية فقط على الجزء الجنوبي من هذه المرتفعات لا غير. و قد حملت اسمه المدينة الجديدة أو المدينة الأوربية الواقعة جنوب الجبل، و التي شرع في بنائها سنة 1913 وفق تصميم أنجزه الكابتان Landais الذي شغل منصب أول رئيس للمصالح البلدية في مراكش.
فرض اختيار الموقع بداية 1913 مجموعة من الاعتبارات، على رأسها الدواعي الأمنية التي كانت تقضي بوجود التجمع الجديد قرب المخيم العسكري و الحصن الذي يعلوه، إلى جانب كثافة الغطاء النباتي بالمجال، و سهولة جلب المياه، عدا أن الأرض كانت مخزنية و بالتالي فقد كانت في منآى عن كل مضاربة عقارية. فكيف تدبرت المصالح البلدية بمدينة مراكش مسألة الماء بالمدينة الجديدة؟
يقدم لنا جورج ايميل Georges Aimel  إجابة عن هذا السؤال في معرض وصفه للمدينة الجديدة بعد مرور ست سنوات على بداية الشروع في بنائها. فقد سمحت السواقي بالري الكثيف للأشجار المغروسة على جنبات الشوارع. لكن تزويد المنازل و الحدائق الخاصة بالماء الضروري ظل مطروحا إلى غاية 1916 تاريخ إنشاء ايميل لمقاله المعتمد هنا.
فقد أشار إلى مباشرة المصالح البلدية و مصلحة المياه آنذاك دراسة مشروع جلب مياه عين قادرة على تغذية مدينة يبلغ عدد سكانها 20.000 نسمة. و تعود أهمية هذا المشروع إلى الرغبة في انتزاع الأوربيين المقيمين داخل المدينة العتيقة، الذين امتنعوا عن الالتحاق بالمدينة الجديدة لعدم توفر المياه بها مقارنة بالمدينة العتيقة. و لتحقيق ذلك أمسى من الضروري توفير سكن ينساب فيه الماء انسيابا دون انقطاع، مُوفرا بذلك الإمكانية لإقامة المراحيض و الحمامات الخاصة داخل المنازل.   لكن ما هو السبب الذي أدى إلى تأخر انجاز مشاريع ربط الوحدات السكنية في المدينة الجديدة بالماء؟
انطلقت عملية بناء المدينة الجديدة قرب جبل كليز سنة 1913 و لم تبدأ دراسة مشروع جلب المياه إليها إلا سنة 1916. و كما نعلم فقد انخرطت فرنسا خلال الفترة الفاصلة بين التاريخين في الحرب العالمية الأولى، و هو ما جلعها توجه مواردها البشرية و المالية نحو جبهات الحرب، الأمر الذي أدى إلى تأجيل كل المشاريع المُبرمجة لتزويد المدينة الجديدة قرب جبل كليز بالماء. و يشهد على ذلك قول جورج ايميل أن انطلاقة كليز المتوقفة مؤقتا بسبب الحرب، ستتحقق حينما تتحسن الشروط العادية للحياة الاقتصادية.