الرئيسية » الأرشيف » هل لا يزال في وسع المراكشيين المرح والتنكيت، في زمننا الحاضر ؟

هل لا يزال في وسع المراكشيين المرح والتنكيت، في زمننا الحاضر ؟

الكاتب: 
عبد الكبير الميناوي ____مراكش 24

ليست مراكش مجرد مدينة يحددها موقعها الجغرافي على الخريطة. إنها رمز وتاريخ ممتد بتفاصيله في الكتب وفي جغرافية المكان. مراكش هي تاريخ ممتد بأحداثه وأسرة حاكمة تترك مكانها لأخرى، بينما المدينة أبدا شامخة في مكانها بكل بهائها ورمزيتها، تعانق نخيلها بينما تصنع بهجتها، «ومن أخضع المدينة واستباح عرصاتها صار سيدا لساداتها».
تعرف مراكش بأكثر من اسم ولقب، فهي: «مراكش» تاريخا، و«الحمراء» لونا، و«مدينة النخيل» و«السبعة رجال»، كما أنها «البهجة» نكتة ومتعة مرح وفكاهة وحكي.

لكن، لماذا تلقب المدينة الحمراء بـ«البهجة»؟ يتميز المراكشيون بالمرح وحس الفكاهة دون غيرهم من المغاربة، إلى درجة التصق فيها لقب «البهجة» بكل مراكشي، ثم، ما الأصل في تسمية «البهجة»؟ وهل لا يزال في وسع المراكشيين المرح والتفكه والتنكيت، في غمرة التحولات التي تعيش مدينتهم على إيقاعها؟ يتساءل الكاتب عبد الصمد الكباص، قبل أن يورد تفسيرا طريفا لروح البهجة والنكتة، التي ظلت تتميز بها مراكش، أورده ابن الموقت، في كتابه «الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية»، على لسان محاوره، في فقرة حملت هذا العنوان الدال: «الحكمة في أن مدينة مراكش وأهلها في سرور»، قال فيه إن مؤسسها يوسف بن تاشفين «تحرى بواسطة بعض خلصائه وضع أول حجر من تأسيس بنائها في برج العقرب الذي هو برج الغبطة والسرور، لتبقى دائما دار سرور وحبور، وذاك السر في كون المرح والنشاط يغلب على سكانها ويفيض من بين أركانها».

من جهته، يستعيد الكاتب والباحث محمد آيت العميم، الفقرة نفسها، التي وردت في كتاب ابن الموقت، فيقول إن «الذين بنوا مراكش، من خلال استشاراتهم مع مجموعة من العلماء، بنوها على برج العقرب، وهو برج يعرف، عند علماء الفلك، أن من سماته الحبور والسرور والبهجة»، مشيرا إلى أن من شأن هذا التفسير أن يعطينا بعض التعليلات لهذا الانشراح الذي يعتري سكان المدينة، كما يتجلى بقوة على الوافدين عليها، إذ إن كل من وفد على مراكش، في الماضي كما في الحاضر، تجده يحس بنوع من الاستسلام للمكان والرغبة في الإقامة به، إذ بمجرد أن يستقر المرء في المدينة يبدأ في الإحساس بنوع من الألفة مع المكان، ولذلك صارت هذه المدينة المغربية وجهة ومكان إقامة مفضلا لعدد من الكتاب والفنانين المشهورين عالميا، أمثال الإسباني خوان غويتصولو والرسام الفرنسي الشهير جاك ماجوريل، وغيرهما، دون الحديث عن آلاف المقيمين الأجانب العاديين، ممن أسرت المدينة الحمراء قلوبهم، وكلنا نذكر كيف خاطب عمدة باريس عمدة مراكش، قبل سنوات قليلة، متفكها، بقوله: «إنكم تسرقون مني سكان باريس».

 

وإلى حديث «برج العقرب» وعلاقته ببهجة مراكش وأهلها، يشير آيت العميم إلى أن «مؤسسي المدينة الحمراء عملوا على أن تكون لها متنفسات، فضلا عن أنهم شيدوها في منطقة منبسطة، حتى تستفيد من الموارد المائية، بحكم أن عاصمة المرابطين توجد عند سفوح جبال الأطلس، ولذلك أقاموا نظاما وفر فرص الاسترخاء والظلال والخضرة للساكنين، من خلال الكم الكبير من البساتين والحدائق التي توجد بها، مثل حدائق (أكدال) و(المنارة).. وغيرها، وهي فضاءات أسهمت في أن يكون للمراكشيين متنفس طبيعي تنعكس فيه مظاهر بهجتهم وانشراحهم».

ويضيف آيت العميم، راصدا علاقة المدينة بالمساحات الخضراء، قائلا إن بناة المدينة كانوا أذكياء، إذ وفروا لها حدائق خلفية، في الضواحي، مثل «أوريكا» و«أغمات» و«إمليل»، مما يعني أن بهجة مراكش تضافرت فيها جملة عوامل، طبيعية وعمرانية، دون إغفال تفرد هذه المدينة الساحرة بساحة جامع الفنا الشهيرة التي اعتبرت، على مدى تاريخها، فضاء لإنتاج الفرجة ونشر البهجة. ويرى آيت العميم أن المدينة الحمراء حاولت أن تبني شخصيتها، انطلاقا من موضوع البهجة، الشيء الذي انعكس على سلوك أهلها الذين تميزوا بروح النكتة وسرعة البديهة وخلق فرص الضحك وتوزيع السرور بين بعضهم البعض، وعلى الزوار. ويذهب آيت العميم، في ربطه لعلاقة البهجة بمراكش وأهلها، إلى أن «اسم المراكشي ينحسر، أحيانا، فيعوض باسم (البهجة)، بمعنى أنه يصبح اسم علم على قاطني هذه المدينة، وكأن مصير المراكشي أن يظل دائما في مستوى عال من خلق فرص السرور وإدخالها على الآخر من خلال السلوك وخفة الدم وطريقة الكلام والحديث، الشيء الذي يعني أن (البهجة) صارت جزءا من هوية وشخصية المراكشي».

وجهة النظر، التي يوردها آيت العميم، نجده يتقاسمها مع الكباص، الذي يرى أن «كلمة (بهجة) تلتصق بمدينة مراكش وسكانها، على حد سواء، ولذلك ترافقهم أينما حلوا وارتحلوا، حتى صارت علامة كرسها التاريخ لتمييز هذه المدينة وأبنائها في مختلف ربوع المغرب، وأضحى كل من يغترب عن مدينته من المراكشيين يلقب (البهجة)، كما لو كانت المدينة بكاملها تحل في روحه وتسكن جوانح نفسه». ويرى الكباص أنه «بما أن المدينة ليست، فقط، مجالا وإنما هي صيغة في الوجود، وأسلوب في التعامل مع الذات والآخرين، ونمط من العيش، وعلاقة خاصة مع الطبيعة والأشياء، وتأويل للذاكرة، فقد كانت (البهجة) تعني صيغة خاصة في الوجود وأسلوبا متفردا في العيش لدى المراكشيين، أساسها الحبور والمرح وخفة الدم واستثارة الانشراح المبهج في الحياة وجعله شيئا راهنا في كل لحظة، وإبداع آفاق مختلفة لتجريب قيمة الفرح واختبارها عينيا في الحياة، وهو ما شكل لغزا مدهشا للمؤرخين والأدباء الذين انشغلوا بأحوال مراكش، فوصفوا مظاهره وفصلوا في دقائق تجلياته واستفسروا عن أسبابه».

هذا الحديث عن لغز مدهش بالنسبة للمؤرخين، في حديث الكباص، يجد صداه عند الأديب الحسن بن اليماني بوعشرين، الذي عاش في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، إذ يتحدث في كتابه «التنبيه المغرب عما عليه الآن حال المغرب»، قائلا: «اعلم أنه لا خلاف في كون مراكش مدينة كثر خيرها، وانتفى ضيرها، وانبسطت أرضها، وتفسحت أرجاؤها وطولها وعرضها، وفيها من البهجة والإشراق والانشراح العام في أنحائها والآفاق، ما لا نزاع فيه بين الناس، ولا يتطرق إليه احتمال ولا التباس، وفيها من رخص الأسعار وكثرة الخيرات والثمار والأشجار المنوعة الأزهار، والنخيل الكثير الزخار، ما لا يختلف فيه اثنان ولا ينكره إنسان، وأنها كثيرة المرافق، بعيدة عن العوائق والبوائق وهي بلدة تقبل من جاءها وتؤنس الغريب إذا أتاها وقصد أرجاءها، واستمطر سماءها، وتنسيه في ذويه وأهله، ولا تألو جهدا في لم شعثه وجمع شمله، وكل الناس لهم حنين إليها واشتياق، لتيسر المعاش بها والأرزاق، وبها من الحدائق والجنات، والبساتين الموفرة الخيرات، والمتنزهات الفائقات، المتكفلة المسرات والمبرات، ما لا يوجد في غيرها من مدن المغرب على الإطلاق والعموم والاستغراق».
ويمضي اليماني بوعشرين، قائلا، في وصف المدينة وأهلها: «وحق لها أن تسمى شام المغرب وتلقب بالأنيس المطرب، فمن وصلها لا تسمح نفسه بعد بفراقها، ولا تطاوعه في الانفصال عنها وطلاقها، فهي تألف كالمؤمن وتؤلف، وترأف وتشفق وتتعطف، فالقلوب بها مستريحة، واعتقادات أهلها في جانب الله تعالى صحيحة، يقنعون بالقليل، ويعاملون بالجميل ويتوكلون على الله الغني الجليل، وتلك الطباع فيهم مغروزة وراياتها المرفرفة في ساحاتهم مركوزة، لذلك ينسبون لكثرة الصلاح ويرجى لهم النجاح والفلاح».

 


نفس الصفات والخصائص، التي سردها اليماني بوعشرين، بصدد مراكش وأهلها، ستستوقف ابن الموقت، الذي لاحظ أن «أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة وفي وجوه جميع سكانها وأهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، وتحيط به أركانها».
واليوم، بعض المراكشيين حائرون يتساءلون في تخوف من إمكانية أن تفقد المدينة الحمراء بهجتها، خصوصا بعد أن نبتت عمارات تناطح وتعاند بعضها متطاولة على النخيل والصوامع والحدائق، وصارت الشوارع والساحات تختنق بالسيارات والدخان والضجيج، والمدينة تتحرك بإيقاع معيشي متباين لم يعد يجد فيه المراكشي نفسه، بعد أن ضاق الجيب على اليد، التي ما عادت تستطيع مجاراة ارتفاع الأسعار ومتطلبات الحياة والأبناء، وبالتالي لم يعد للنفس والخاطر متسع للنكتة والمرح وراحة البال.
ومع ذلك، يتشبث آيت العميم بالتفاؤل، بصدد بهجة المدينة وأهلها، مبرزا أن «التحولات المتسارعة قد تكون غيرت من سلوك المراكشيين، لكن هذا لا يعني أن روح البهجة غابت أو انحسرت»، مشددا على أن «البهجة ستظل حاضرة، خصوصا أن محن وكوارث الماضي لم تؤثر في المراكشيين، الذين استطاعوا دوما أن يحولوا المحنة إلى بهجة تتوسل السخرية وخفة الروح والظل، مما يعني أن روح البهجة لدى المراكشيين لا تتأثر لا في الشدة ولا في الرخاء، ما دام أن المسألة ترتبط هنا بهوية أصبحت ثابتة ولازمة، حتى وإن تغيرت الظروف والأحوال».

وعلى عكس آيت العميم، يبدو الكباص أقل تفاؤلا، إذ يقول، جوابا على سؤال التحولات التي تعيش المدينة الحمراء على إيقاعها، وأثر ذلك على بهجة المدينة وحبور أهلها: «لم يعد بوسع المراكشيين أن يكونوا مرحين كما كانوا، إذ إن العالم تغير في تفاصيله، ومراكش البهجة أضحت قصة منتهية: أشياء كثيرة حدثت. في الماضي، كان المراكشي يظل مراكشيا من صباحه إلى مسائه، ومن يقظته إلى نومه، بل حتى في أحلامه. أما اليوم فقد شتت الإعلام انتماءه، فهو قد يصبح مراكشيا، لكنه يعبر في يوم واحد أساليب مختلفة في العيش وأشكالا متنوعة في ابتكار الذات. في دماغه تتزاحم أسواق لغوية متنافرة، وفي إحساسه تكتظ أنماط متناقضة. إنه مراكشي الآن وغربي بعد حين، محافظ في الصباح في البيت، وليبرالي في العمل والسوق