الرئيسية » 24 ساعة » ماذا سيتبقى من حياة البهجة بعد زمن كورونا في مراكش

ماذا سيتبقى من حياة البهجة بعد زمن كورونا في مراكش

عبد الحميد زويت -مراكش24

بعدما ألفت مدينة البهجة و تََطَبعَت  منذ عشرات  السنين  على إستقبال  شهر رمضان الكريم بخصوصيات مراكشية  فريدة تتوج الأجواء الدينية المرتبطة بطقوس العبادة والصيام خلال الشهر الفضيل , إنمحت هذه السنة  بسبب  وباء كورونا عادات وتقاليد لم يمكن أحد يتخيل أن الإستغناء عنها كان ممكنا بل هناك من كان يعتقد أنها مرتبطة بإسم المدينة و ايضا بهويتها التاريخية والإجتماعية وبمدى  إمتدادها الحضاري والتاريخي  وحتى لوقت قريب لم يكن من المتوقع التخلي عنها

و في الوقت الذي تبقى مدينة مراكش مدينة محافظة بقوة وتعتز ساكنتها  بتخصيص الحيز الزمني الأوفر من وقتها للعبادات في رمضان إلا أن مدينة مراكش تتفرد خلال أشهر رمضان السالفة على المستوى الوطني والعربي بطقوس محلية فريدة لا يمكن إستنساخها في أي مدينة أخرى من العالم .وقد أثر غياب هذه الأجواء  في إرتفاع منسوب الحنين لدى شرائح واسعة من ساكنة المدينة ليس فقط لهذه الطقوس فقط بل للهوية المراكشية أيضا  وهو ما دفع عددا من عشاق الحياة على الطريقة البهجاوية”  لإبتكار أساليب جديدة تتماشى مع توصيات وإجراءات المحافظة على الصحة العامة والحد من إنتشار فيروس كورونا .

الطنجية … الجائحة تُغَيب “الفرناتشي” .و عشاق حياة “البهجة” يبتكرون طرقا خاصة في 2020 .

على رأس لائحة الطقوس الشعبية لشهر رمضان الفضيل تبقى وجبة ” الطنجية” بدون منازع إحدى أهم الوجبات الغدائية  المرتبطة بقوة في أذهان المراكشيين بشهر الصيام حيث يستقبل الشخص المكلف بتسخين وتدفئة حمام الحي و  المعروف محليا ب” الفرناتشي” –يستقبل – يوميا عشرات “الطناجي ” إبتداءا من صلاة العصر وحتى صلاة المغرب و تختلف مكوناتها الرئيسية ما بين لحم العجل و لحم البقر ولحم رأس العجل و في مرات قليلة ونادرة لحم الدجاج .

وإن كانت هذه السنة وتحت الظروف الصحية الحرجة  جميع المكونات التي تدخل في إطار إعداد وجبة الطنجية متاحة ومتوفرة في جميع المحلات  منها الإناء الطيني و  اللحم و “الكمون” و “الحامض المصير” و “شعيرات الزعفران” وزيت الزيتون بالإضافة للسمن  إلا أن إقفال الحمامات الشعبية لدواعي إحترازية جعلت إعداد الطنجية مهمة معقدة و شبه مستحيلة في غياب مكون رئيسي من مكوناتها وهو الشخص المكلف بطهيها على نار متوسطة الدفء في المبنى تحت أرضي المرتبط بالحمام و كان يسهر على تحريكها برفق من حين لأخر حتى تستكمل جاهزيتها للأكل وفق المتعارف عليه

غياب هذا المكون زاد من تعقيد حياة عشاق العيش على الطريقة المراكشية حيث ظهرت طرق جديدة لإعداد هذه الوجبة أشهرها طهي ” وجبة الطنجية” في الإناء الطيني المخصص لهذا الغرض ولكن فوق “مجمر طيني” مزود بالفحم الخشبي  ومراقبتها طيلة 3 ساعات و تحريكها من حين لأخر . ومنها من يلجأ لطهيها فوق موقد الغاز وعلى نار هادئة  داخل أنية  الطبخ السريع “الكوكوت “.

وتذهب شريحة أخرى من عشاق الحياة والطبخ المراكشي خلال فترة الحجر الصحي إلى طهي وجبة الطنجية داخل أنيات حديدة عريضة , بعد أن يتم ملأها بالفحم الخشبي “الفاخر” والعمل على تحريكها من حين لأخر إلى حين جاهزيتها للأكل .

وتبقى هذه  الطرق المبتكرة وسيلة لمحاكاة الطنجية وطقوسها الحقيقية إذ تفتقد ساكنة مدينة مراكش للأجواء المصاحبة لإستقدام “الطنجية ” من الفرناتشي والتجول بها أمام الأحباب والأصحاب قبل دعوتهم للمنزل لتناولها رفقة كؤوس الشاي المنعنع و الذي تصاحبه دوما دردشات و قفشات فكاهية من وحي الدعابة المراكشية .

“نزاهة رمضان” ..قانون  منع التجمعات يحرم المراكشيين من “تقرقيب الناب”

قبل جائحة كورونا كانت الخرجة الليلية خلال شهر رمضان الفضيل تكتسي أهمية قصوى في الترويح عن النفس لدى شريحة الصناع التقليديين و  الشباب و ترسخت في أذهان ساكنة مراكش كتكملة أساسية للبرنامج اليومي الرمضاني بعد صلاة التراويح,  وكان  الجميع يتنقل  إلى العراصي والمساحات الخضراء الممتدة بين أطراف المدينة ومنها عراصي شهيرة وشاسعة بإمكانها إستقبال مئات  الأسر المراكشية وضيوفهم إلى غاية إقتراب موعد السحور

وخلال هذه السنة التي تعيش البلاد ظروفا صحية صعبة شأنها في ذلك شأن باقي بلدان المعمور إختفت هذه الخرجة الليلية بشكل كامل , وذلك إستجابة للتوصيات التي أصدرتها السلطات العامة بالمدينة,  ويتقوى جنين المراكشيين إليها فعليا لأنها تجسد الخصوصيات المجتمعية للمنطقة ككل وتسمح بملاقاة الأحباب والدردشة معهم والإطلاع على أخبارهم والتقرب منهم ونسج الكلام الموزون في حقهم بطريقة لبقة مستوحاة من فن العيش على الطريقة المراكشية .

غياب وحظر الخرجات الليلية حتى وإن كان قانونيا وينطوي على  مصلحة عامة  تجاوبت معه الساكنة بالمكوث في المنازل إلا أنه لم يمنع الرغبة والحاجة الملحة الدفينة في نفوس أهل مراكش للقاء الأحبة والسمر في فضاءات طبيعية هادئة ولم يتمكن عموم السكان من إبتكار طرق عملية أخرى لتعويض هذه اللقاءات الإجتماعية خلال رمضان من هذه السنة  ولم تنجح تقنية التواصل الفوري عبر مواقع التواصل الإجتماعي من تعويض هذا النقص وتكتفي معظم الأسر بالإطمئنان على الأحبة عبر تقنيات التواصل عبر الفيديو  من حين لأخر في إنتظار رفع هذا الوباء راجية أن يكون رمضان المقبل أفضل بدون قيود وبدون وباء

جلباب العيد … كورونا توقف بهجة عيد الفطر حتى إشعار أخر

من ضمن الطقوس الأصيلة عند الأسر المراكشية التي تغيب ايضا هذه السنة لدواعي صحية مؤقتة إرتداء جلباب يوم عيد الفطر و  تشرع النساء والرجال في شراء الثوب الخاص به إبتداءا من الأيام الأولى لرمضان و يجري إيداعه من بعد لدى الخياط التقليدي و يضرب الخياط (المعلم) مواعيد متفرقة طيلة أيام شهر رمضان الفضيل بهدف أخد مقاسات الطول والعرض في مرحلة أولى فيما يتم إجراء إختبارات تكميلية بحضور الشخص المعني بالأمر في مراحل أخرى لغاية تسليم الجلباب اياما قليلة قبل عيد الفطر .

من المؤكد خلال هذه السنة أن جلباب العيد جاهز ولا يستدعي التنقل بشكل أسبوعي إلى محل الخياط و سيكتفي المراكشيون خلال هذه الظرفية الصعبة بإرتداء جلابيب السنوات الماضية أو العمل على إقتناء أخرى جاهزة في حال ما تم الترخيص لمحلات بيع الملابس التقليدية بمزاولة نشاطهم بشكل مؤقت خلال 3 أيام الأخيرة من شهر رمضان

 

كسكس في ليلة النص..وجبة عائلية مستعصية في زمن كوفيد 19

لا يمكن الحديث عن شهر رمضان في مدينة البهجة دون الحديث عن ليلة نصف رمضان التي تتم تسميتها إختصارا في مراكش ب”ليلة النص” وتجمع أفراد العائلة في منزل واحد و حول طبق واحد تتخله أحاديث جانبية عن أحوال العمل.. وتمدرس الأطفال ..وفي كثير من الأحيان أحوال الأمة العربية ..والقضايا الدولية ..وهفوات الحكومة.. و جودة المنتوجات الزراعية ..ومقارنة منتوجات كل جهة فلاحية من جهات المغرب ..وفي الأساس هو تقليد وعرف جرت به العادة كما جرت العادة بتبادل الزيارات و يتميز بتقديم وجبة الكسكس التقليدية علاوة على وجبة “التريد بالدجاج البلدي”

غير ان هذه السنة إنحصر هذا العرف الإجتماعي على  أفراد الأسرة الواحدة التي تعيش في نفس العنوان وشهدت ليلة النصف من رمضان التي صادفت هذه السنة ليلة الجمعة 8 ماي خفوتا وشللا تاما للتحركات الإجتماعية بسبب قانون الطوارئ الصحية الذي جرى تفعيله في البلاد وإكتفت أغلب الأسر المراكشية بتيبادل التهاني والتبريكات عبر منصات التواصل الفوري مدعومة بصور الوجبات العائلية التي شارك في طقوسها لهذه السنة أفراد الأسرة الصغيرة فقط : في حين أحست الأسر المراكشية بنقص حاد في هذه التحركات الإجتماعية التي لم تكن فقط وسيلة من وسائل القيام بالواجب الأسري والعائلي بل أثتبث أيضا قيمتها الإنسانية في تقوية الروابط المجتمعية و إستحضار قيم التكافل والتضامن في الدين الإسلامي والحرص على عيادة وزيارة ذوي القربى وهي عادة لا يمكن تعويضها بأي شكل من الأشكال

المراكشيون يحنون لإسترجاع حياة “بهجاوية ”  . لكن ل”كورونا” رأي أخر  

الحنين القوي الذي تسلل  نحو نفوس المراكشيين خلال شهر الصيام هذه السنة  من المحتمل أن يساهم ما بعد وباء كورونا في إرساء قواعد إجتماعية جديدة  لن يتخلى من خلالها سكان مدينة مراكش عن هويتهم وأصالتهم   المغربية الأصيلة بالتأكيد , لكنه سيضع لهم حدودا جديدة لسلوكاتهم  الجماعية  حيث ستختفي بعض السلوكات الهامشية مع مرور الزمن منها العناق والمصافحة بالوجه وكثرة التقارب الإجتماعي وستظهر  أيضا سلوكات فردية  وضوابط  مجتمعية تساير الوضع الصحي الذي يعرفه العالم لكنها عموما ستبقى تدابير صحية بلمسة مراكشية و ستستمر إلى ما بعد القضاء النهائي على الوباء

وعموما فإن كل التقاليد والسلوكات الجماعية التي كان ينهجها ويتشبث بها المراكشيون ما قبل زمن كورونا  باتت اليوم مطروحة للنقاش بهدف الحفاظ عليها وتحيينها تماشيا مع زمن ما بعد كورونا الذي سيكون زمنا تتوحد فيه السلوكات الإحترازية التي ينهجها الأفراد في جميع بقاع العالم . وهي مهمة لن تتأتى بسهولة دون أجهزة حكومية قوية قادرة على صيانة وحماية موروثنا الثقافي والإجتماعي وجعله يساير الضوابط العالمية للصحة العامة  وهي مهمة تستدعي أولا تدوين وتوثيق هذا الموروث في مرحلة أولية و الحفاظ عليه في مرحلة ثانية كخطوة أولى لإرساء ركائز حضارتنا المغربية الأصيلة التي لم يتبقى منها في زمن العولمة إلا شذرات قليلة ترتبط فقط بالمعيش اليومي للأفراد في حين لم نتمكن من إحياء الضوابط المجتمعية المنبثقة أيضا من حضارتنا المغربية العريقة .والتي كانت تولي عناية خاصة بفن العيش المشترك.